المشلوش. للأديب. سمير بن التبريزي الحفصاوي
(رواية قصيرة)
"المْشَلْوِشْ"....
هو مطعم بسيط يقع في مدينة بئر الحفي .وتدقيقا طريق سيدي بوزيد مقابل مقر فرع شركة الكهرباء والغاز التونسية "الستا ڨ".
مررت صدفة من أمامه صحبه صديق لي، ذات ظهيرة، استفزتني ،واستفزت جوعي وشراهتي ونهمي ،وقادتني اليه روائح مقليّ الطّماطم والفلفل الأخضر ...روائح لفحتني عن بعد ،داعبت شهيتي ،لتستثير فيا جوعا شديدا ونهما طارئا لا اعرفه من قبل...!!!حين الوصول والدخول صحبه صديقي الذي دعوته الى طبق من هذا الاكل الذي نشم عبقه، وسرعان ما وافق متعللا بجوعه هو الآخر أيضا ، وسارع في ٱستباقي الى المطعم مبديا اعجابه بروائح الأكل العبقه التي تعم المكان...!! روائح إستثارت في شهيّتي جوعا شديدا ونهما لم أعهده منذ زمن بعيد...!!!دخلت بل سارعت بالدخول وراء صديقي لتتجلّى وتتوضّح أكثر تلك الروائح وتزداد عبقا عند صحن المطعم اين سنجلس للسفرة ...تقدّمت الى صاحبة المحل لأسألها عن محتوى الأكل برغبة غريبة وجامحة لاستجلاء أمر هذا الطعام ذي الرائحة الساحرة ...!
فقلت لها بعد التحية:
ماذا عند كم من أكل...؟؟؟
أجابتني:
أجابتني المرأة بأدب و بهدوء وحفاوة وخلق كريمين وبعد أن رحبت بحفاوة
وردت التحية بخير منها:
قائلة لنا :
مرحبا بكما، الأكل هو "مْشَلْوِشْ" يعني مقلي الطماطم والفلفل الأخضر...مع "كسرة" "رڨّاڨ" (رغيف الخبز الرقيق) ....
سارعت في الطلب وجلست في ناحية قباله صديقي، منتظرا الأكل بفارغ الصبر...!!! وروائح المقلي لا تزال تستفزّ جوعي وتحملني الى حيث لا أعلم ولا أدري ...!!! وماهي الا لحظات حتى حلّ الطّبق والكسرة الرڨّاڨ التي قدّمت وجاءت حاره من بيت نارها وتنورها...
ومع أول "نتشة " (قطعه رغيف الرقاق)تذوقت طعم "مْشَلْوِشْ" غاية في البنّة (الطيب)و الذي كان يبدو قبل التذوق مقلي طماطم وفلفل أخضر عادي...!ولكن بعد تذوقه لاول قطعه رغيف اكلتها، أحسست أن الطعم جاء من غور الماضي البعيد ...البعيد..!!!
طعما سلب إرادتي مني ، ونقلني على الفور الى ذلك الزمان الى امس كان جميلا ...نسيت كل من حولي،جليسي على الطاولة وصاحبه المطعم، ولم أعد اتنفس وأحيا الا من خلال هذا الطعم الطّيب الغريب ...!!!
تزاحمت... وتراصفت... وترادفت... وتناثرت... وتجمعت... وتنافرت... وتآلفت ...وتباعدت... وتقاربت.... واختلطت...وتداخلت في خاطري وفي وهلة صورا من زمن ولى ودخل طي الزّمن المنسيّ ...!!!صورا من قبيل "كسرة" على "غربال" أو 'منفظة" ( رغيف رقاق) تخرج من "الحوّيطة" أو "الحجير"(كوخ من الحطب مكان طهي الرغيف) الى البيت ...مقليّا في مقلات مهترئة بالسّواد وكثرة الاستعمال كسر مرفعها ...!!!سكب مقليّها الطّيب القليل في صحن " نيلو" (بلاستيك)أخضر... توضع على مائدة اللوح المشقّقة المتهالكة من النصف والمتآكلة من الأطراف . لأجلس على " نطع " (جلد خروف)أو " كليم شلا ليق " أوجرد حصير حلفاء (فراش البسطاء)على أرضية البيت الاسمنتية أو تراب "المعمورة " (الكوخ)أحيانا اجلس مجانبا مربع نور شمس الضحى الهادئة الحالمة في صمت وبساطه قرى الامس، ذلك المربع الذي يرسمه شكل الباب داخل بيتنا العتيق البسيط نورا للشمس، آكل هذه الأكلة "المشلوش" أكله الفقراء والبسطاء وأضاجع بنّتها بنهم وشراهة شديدين ....!!!
حملني طيب المذاق الى ذلك الماضي البعيد ...والى دروب الصبا، و إلى مرابع قرى الامس الجميل... ارتعدت فرائسي وتخمّرت في صحن "المْشَلْوِشْ"والكسرة الرڨّاڨ او "المعلوكة" أو"بوشڨّوف" الحارّة ( الرغيف الرقاق رغيف التنور) ... حضر الاكل وقدمته لنا صاحبه المطعم فالتهمته التها ما و والتقمتهالتقاما... دون لو ك أو "مضغان" وذلك من شدة النهم والرغبة الى السفر في أغوار ذلك الماضي المنسي من خلال ما اشم وما اتذوّق ...!!! تخمرت في الاكل وطيب الاكل وعلى نخبه سكرت وثملت ولم اعد أر ماحولي من اشخاص و من تفاصيل ديكور المكان الحاضر شيئا...!!! ليتغيّر المكان وتفاصيل المكان في لحظة الى ديكور مسروق متخيل من ذاك الماضي الجميل... فيه قط جالس بطمع القطط وحرماني قطط الامس جالس أمامي او جاث باسط خفيه يرقب اكلي للمشلوش و ينتظر مني التكرم "بنتشة" له (قطعه من الرغيف الرقاق)... والى رحى بجانب القط ، و"رقعة" و"بابور قاز"...وإلى سطل هندي (ثمار التين الشوكي) بجانب المدخل عليه سكين ومقبض من التقفت الأخضر قد مًسح به شوكه، وبجانبه كومة من اللّوش الأحمر والأخضر(قشر التين الشوكي) ...حضرت من صميم هذا الطّعم العجيب الغريب على من ذاك الزّمن ملامح لصورة المرحومة "دادة"(والدتي) تجلس قبالتي تنشف أو تغزل الصّوف في ناحية .وفي النّاحية الأخرى صورة لوالدي وحوله سفرة الشاي، والكانون وحكة "النّفة" والسّبحة ومحرمة الخشم ...!!!أخذني ريح "المْشَلْوِشْ "الطّيب الى الكيم (الكوخ) و"الحويطة"(مكان طهي الرغيف والرقاق) و"البانكينة" (منبسط اسمنتي في بهو المنزل) والمراح(اسطبل الحيوانات ابقار واغنام وابل وغيرها...) وأسطار التين الشوكي والمندرة (البيدر)و"البحانين" (مكان يبيض فيه الدجاج)و"الخشش" (آكام التين الشوكي)، وهجير الصيف، والشهيلي(رياح السموم الحاره ومنها ريح الصبا) والسراب والغيم ...الى كواتيرنا ودروب قرانا القديمة...الى "المثنانة" والشجرة التي منعطف الطريق، والحجر الجاثم منذ غابر الأزمان في ضفّة الوادي ...
أخذني طعم "المشلوش" الى منابت "العلجان" و"الشيح" والى ومواسم الجني والحصاد...! وإلى ليال مقمرة و هادئه وحالمه بالسعادة وراحة البال... و وإلى ليال شتويّة بارده بالحنين ،و عتمها شديد ،ونجومها غزيرة بالحب والبساطة ...أخذني دون إرادة مني الى ليالي فيها سمر وأنس ودفئ عائلي كان و أضحى شبه مفقود وأثرا بعد عين في عالم غربتنا فيه الاضواء والصخب وبعدتنا الهواتف النقاله والحياه الافتراضية فاصبحنا نعيش اغرابا...سافر بيا الطعم الى عود القطيع في مساءاتنا الجميله، وإلى زمن "الدراس" (حبل تجمع به النعاج للحلب) ...وإلى دفئ ليال القر والصقيع، وإلى صباحات قرانا الهادئة، وترانيم القرويين في عصريات الحقول وعند الأصيل ... انهال من طعمه نباح كلاب كان يوما ما ، فصمت و اندثرالى الابد ... وثغاء لقطيع كان يوما هنا ومر من هذه النوادي... ولصهيل ونعيق و صياح لديكة وهديل لحمام ونواح ليمام كان ...!غالب عينيّا الدّمع،فحاولت كظمه واخفائه،لكنه فاض رغما عني... ونزل كالسيل العرم... احرجني
فبرّرت لجليسي على سفرة المطعم ساعتها زورا وبهتانا بأن الدّمع نتيجة انسداد في الحلق بالكسرة والرغيف، ونتيجة حرارة الفلفل ولذعه.... !!وواقع الحال اني كاذب بالقصد لا محالة ...!!! حيث أن هذا الفيض المنهال من الدمع كان من فرط جياشة اللحظة وتوهجها، وشحن الوجدان حنينا وشوقا لتلك الايام الخوالي ...!!حين فتح صحن "المْشَلْوِشْ" هكذا فجأة نافذة على الأمس البعيد هذا الصّحن البسيط المتواضع ...!!!نعم صحن "المْشَلْوِشْ" هذا أمّن جسرا من الحنين الى تلك الايام الغوادي ...!!!ولم أعلم و لم أفهم لماذا ساعتها وجدت نفسي أترنّم في هاجسي بأغنية مارسيل خليفة :
«أحن الى خبز امي وقهوة امي وتكبر فيّا الطفولة يوما على صدر أمي» ...
لأغير كلماتها همسا وغمغمة الى :
«أحن الى "مْشَلْوِشْ" وكسرة أمي وتكبر فيّا الطفولة يوما على صدر أمي...» إستفقت من غفوتي الجميلة، ومن حلم مفعم بالحنين والاشتياق، حلم حملني له هذا الصحن وماحوى...!!! لأستفيق حين نفذ منه"المْشَلْوِشْ" مع نفاذ الكسرة والرغيف .....!ما أعظم هذا الصّحن...! وما أعظم هذا "المْشَلْوِشْ..!.
سلمت يد من طهى،ومن أعد...!!
- سمير بن التبريزي الحفصاوي- تونس
التسميات: رواية قصيرة
<< الصفحة الرئيسية